ألبانيز.... هل حان وقت نقل مقرّ الأمم المتحدة؟!

تطرح الخطوة الأميركية بفرض عقوبات على خبيرة أممية تساؤلات قانونية حول مدى توافقها مع التزامات الولايات المتحدة باعتبارها الدولة المضيفة لمقرّ الأمم المتحدة في نيويورك. 

0:00
  •  خرق واشنطن لتعهّداتها الدولية... هل حان وقت تغيير مقرّ الأمم المتحدة؟
    خرق واشنطن لتعهّداتها الدولية... هل حان وقت تغيير مقرّ الأمم المتحدة؟

من المؤسف أن لا يُعطى قرار الولايات المتحدة بفرض عقوبات على مقرّرة الأمم المتحدة المعنية بحقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة، فرانشيسكا ألبانيز، حقّه في التغطية الإعلامية المطلوبة.

من المستغرب أن لا نرى موادّ تذكر عن سابقة خطرة بهذا الحجم تطال خبيراً أممياً حقوقياً حمل لواء المظلومين حول الأرض، كما في فلسطين المحتلة، وعمل على توثيق جرائم الإبادة الجماعية التي تنفّذها "إسرائيل" تحديداً في قطاع غزة. 

من الواضح بأنّ صوتها الحقوقي العالي أزعج الولايات المتحدة، فقرّرت تجميد أصولها وحظر دخولها إلى أراضي الولايات المتحدة. وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو، قالها بصراحة إنّ القرار جاء بسبب "مساعيها غير الشرعيّة والمخيّبة للآمال لدفع المحكمة الجنائية الدولية للتحقيق ومحاكمة مسؤولين وشركات أميركية وإسرائيلية". 

ليس هناك أيّ مواربة إذن لناحية خلفيّة القرار، فألبانيز الشجاعة فعلاً سعت إلى هزّ عروش شركات، مثل ألفابيت، الشركة القابضة لغوغل، وأمازون، ومايكروسوفت، وغيرها بسبب انخراطها في دعم اقتصاد الاحتلال الإسرائيلي.

ولكن ماذا عن التبعات القانونية والدبلوماسية لهذا القرار؟ 

تطرح الخطوة الأميركية بفرض عقوبات على خبيرة أممية تساؤلات قانونية حول مدى توافقها مع التزامات الولايات المتحدة باعتبارها الدولة المضيفة لمقرّ الأمم المتحدة في نيويورك. 

بموجب اتفاقية المقرّ لعام 1947، على واشنطن تسهيل عمل الأمم المتحدة وضمان منح التأشيرات لممثّلي الدول والخبراء الأمميين لحضور اجتماعات المنظّمة. في حالة ألبانيز، تعني العقوبات ـــــ ورغم أنها إيطالية الجنسية وتمارس مهامها أساساً من جنيف ـــــ إعاقة مشاركتها في فعّاليات أممية (مثل اجتماعات الجمعية العامّة) عبر منعها من أن تكون موجودة في نيويورك ومن دخول أراضي الولايات المتحدة.

ما يجب الإضاءة عليه هنا هو نقطتان، الأولى تتعلّق بتقويض حصانة الأمم المتحدة وامتيازاتها عبر هذه الإجراءات الأحادية. أما النقطة الثانية فهي خرق واشنطن لتعهّداتها الدولية باستضافة المقرّ الأممي. 

النقطة الأولى: تقويض حصانة الأمم المتحدة وامتيازاتها 

سارعت ألبانيز إلى رفض الخطوة الأميركية واصفة إياها بـ "أساليب ترهيب على غرار المافيا". ليس في الوصف مبالغة. أسوأ ما في القرار الذي قد يظنّ البعض أنه صادر عن "دولة مارقة" أو نظام ديكتاتوري، إلا أنه صادر عن الولايات المتحدة التي تدّعي ما تدّعي على صعيد الحقوق، هو مسّه باستقلالية آليات حقوق الإنسان الأممية.

فالمقرّرون الخاصّون يفترض أنهم خبراء مستقلّون يتبعون مباشرة للأمم المتحدة، لذلك يجب أن يتمتعوا بالحماية اللازمة لا العقاب ليتمكّنوا من تأدية واجبهم من دون ترغيب ولا ترهيب. وكما قالت الأمينة العامّة لمنظمة العفو الدولية أنييس كالامار، "إنّ المقرّرين ليسوا معينين لإرضاء الحكومات أو نيل الشعبية، بل لتأدية ولاياتهم بكلّ موضوعية".

حتى التوقيت الأميركي يدعو للاستغراب ويُظهر ملامح ما هو مقبل عليه العالم. إذ هل يمكن تصوّر رفع العقوبات عن جبهة النصرة الإرهابية وفرضها على من يوثّق الإرهاب ويرفع الصوت للجمه.  

باختصار، على "مجتمع حقوق الإنسان العالمي" ـــــ إن صح التعبير ـــــ أن يتحسّس رأسه، فالدول الكبرى أو النافذة سترى في الخطوة الأميركية تعبيداً لطريق معاقبة وترهيب الخبراء الحقوقيين، وبالتالي لا صوت للضحايا بعد اليوم.

النقطة الثانية: خرق واشنطن لتعهّداتها الدولية... هل حان وقت تغيير مقرّ الأمم المتحدة؟

في الواقع يبعث سلوك واشنطن برسالة مفادها أنها قرّرت الإمعان في استخدام موقعها كمضيف للضغط على موظفي الأمم المتحدة حين تتعارض مهامهم مع مصالحها. وهنا يصبح السؤال مشروعاً، هل سنسمع بمطالبات لنقل مقرّ الأمم المتحدة أو فعّالياتها إلى دول محايدة؟!

حالياً، هذا ما يجب أن يسمع وعلى أوسع نطاق. فما قامت به إدارة ترامب، كانت له إرهاصاته في السابق. فما نطرحه اليوم ليس بجديد. طرحه قبل ذلك الرئيس الفنزويلي الراحل هوغو شافيز في العام 2005 على خلفيّة غزو العراق، وطرحه كذلك الرئيس الليبي الراحل معمر القذافي في العام 2009. ففي خطاب له أمام الجمعية العامّة وصف ما تتعرّض له وفود الدول التي تختلف مع الولايات المتحدة لقيود شبيهة بـ "معسكر غوانتانامو" من حيث التأشيرات والتنقّل. وما قاله، له ما يؤكّده إذا عدنا بالتاريخ قليلاً إلى الوراء.

هل أتت هذه المطالبات من العدم؟ من المهم التذكير ببعض المحطات التاريخية. في العام 1988 رفضت الولايات المتحدة منح الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات تأشيرة لحضور الجمعية العامّة، ما اضطرّ المنظمة الدولية لنقل الجلسة إلى جنيف تفادياً للإخلال بمبدأ حيادية أرض المقرّ. 

في 2019، قدّمت موسكو مشروع قرار للجمعية العامّة لنقل اجتماعات لجنتها الأولى (المختصة بنزع السلاح والسلام الدولي) من نيويورك إلى مدينة أخرى، احتجاجاً على منع واشنطن 18 دبلوماسياً روسياً من حضور اجتماعات الأمم المتحدة.

في العام نفسه، وعلى هامش الجمعية العامّة، ألمح الرئيس الإيراني السابق حسن روحاني إلى تأييد بلاده فكرة نقل مقرّ الأمم المتحدة من نيويورك. فبعد أن فرضت واشنطن قيوداً مشدّدة على منح التأشيرات للمسؤولين الإيرانيين، قال الرئيس روحاني في مؤتمر صحافي إنه "إذا طُرح سؤال نقل مقرّ الأمم المتحدة للتصويت، فإنّ إيران ستصوّت لصالح نقله إلى بلد أكثر أمناً وأفضل، لا يحمل هذه النظرة الضيّقة".

قائمة الأمثلة تطول. وقد يقول البعض إنّ الأمر بالغ التعقيد من الناحية السياسية والميثاقية واللوجستية. هو كذلك بالفعل، ولكنّ رفع السقف مطلوب. فما دونه لا يمكن القبول بأقلّ من تعديل أو توسيع نطاق اتفاقية المقرّ لعام 1947 لتشمل حماية أوضح وأقوى للخبراء غير الحكوميّين، أو أقلّ من نقل المزيد من الوظائف أو الاجتماعات إلى مقارّ بديلة كخطوة رمزية باتجاه لامركزية المنظمة المهدّدة أميركياً وإسرائيلياً على حدّ سواء. 

عقود مضت، كانت خلالها الولايات المتحدة تعتبر المنظومة الحقوقية في النظام الدولي حبراً على ورق، لتصدير صورة مزيّفة عن احترامها للقانون الدولي، ولاستمرار سياستها في "التمويه القيمي". وها هي اليوم تفرض عقوبات على هيئات دولية مثل المحكمة الجنائية الدولية، وتفرض عقوبات على شخصيات من الأمم المتحدة، كلّ ذلك يضعنا أمام عنوان لا مناص منه ولا مفرّ، وهو إعادة هيكلة الهيئات الدولية، بعيداً عن إرث الأحادية القطبية التي دمّرت النظام الدولي.