أي فرص لصمود وقف إطلاق النار في غزة؟
من الصعوبات التي يمكن أن تواجه المفاوضات في المرحلة المقبلة، عدد الأسرى العسكريين الأحياء، وبينهم قادة يحملون رتباً رفيعة، وإمكانية قبول المقاومة بتقديم لائحة تفصيلية حولهم، والثمن الذي على العدو أن يدفعه مقابل الإفراج عنهم.
لو سألت أحداً، صغيراً كان أو كبيراً، من سكّان قطاع غزة، عن تمنّياته للفترة القادمة، لأخبرك مباشرة استمرار وصمود وقف إطلاق النار في القطاع المدمّر والمنكوب، والذي عانى خلال أشهر الحرب الطويلة من أوضاع إنسانية لا تُوصف، ما زال الكثير من تفاصيلها طيّ الكتمان، وهي بحاجة إلى أشهر وربما سنوات للوقوف على حجمها، والتعرّف إلى تداعياتها وتأثيراتها.
وبما أن الأمور لا تتعلّق بالأمنيات في هذا العالم الذي تحكمه المادة، وتسيطر على جزء كبير منه قوى الشر والإجرام، وفي المقدّمة منها الولايات المتحدة الأميركية، إلى جانب حلفها الشيطاني من دول وجماعات عالمية وإقليمية، فإن مستقبل القطاع الصغير والمحاصر منذ ثمانية عشر عاماً مرتبط بدرجة أولى بجملة من المواقف والمصالح المتضاربة الخاصة بالجهات التي تؤثّر وتتأثر بما يجري فيه ومن حوله، والتي من غير المُتوقّع أن تتقلّص المساحة التي تفصل بين مواقفها ومصالحها خلال المرحلة القادمة،لا سيّما في ظل تولّي الرئيس الأميركي الجديد دونالد ترامب مقاليد الحكم في أقوى دولة في العالم، وهو الذي يُعرف عنه دعمه الواضح والواسع لـ"الدولة" العبرية، بغضّ النظر عن علاقته المتوتّرة مع رئيس الوزراء الصهيوني بنيامين نتنياهو.
خلال اليومين أو الأيام القادمة، في حال حدث بعض التأخير، وبعيداً من التغييرات المحتملة في فريق التفاوض الإسرائيلي، أو لقاء نتنياهو الرئيس الأميركي الجديد، ستبدأ المفاوضات الخاصة بالمرحلة الثانية من الاتفاق، الذي تم التوصّل إليه بشقّ الأنفس، نتيجة الكثير من المعوّقات التي كان الجانب الإسرائيلي يضعها في طريقه، وخصوصاً تلك المتعلّقة باليوم التالي من الحرب، وفي المقدّمة منها الجهة التي تتولّى إدارة أمور القطاع، وحجم السيطرة الإسرائيلية المستقبلية وشكلها، لا سيّما في المناطق العازلة، إلى جانب عملية تبادل الأسرى، خصوصاً من العسكريين الإسرائيليين، والتي يُتوقّع أن تكون عملية معقّدة وصعبة ودراماتيكية، قياساً بما شهدته المرحلة الأولى من الاتفاق في هذا الإطار تحديداً.
بنظرة سريعة على أهم القضايا التي ستتم مناقشتها خلال الأيام القادمة، يمكن لنا توقّع حجم الجهد المطلوب للتوصّل إلى اتفاق بشأنها، ويمكن لنا كذلك تصوّر كمّ المعوّقات التي سيضعها الجانب الإسرائيلي، كعادته، أمام وصولها إلى مرحلتها اللاحقة، بالإضافة إلى الوقت المطلوب لتنضج وتصبح جاهزة للتنفيذ.
في مقدّمة القضايا التي ستتم مناقشتها هويّة الجهة التي ستدير قطاع غزة خلال المرحلة القادمة، والتي تُصرّ "إسرائيل" على أن تكون بعيدة كليّاً من فصائل المقاومة الفلسطينية، وخصوصاً حركة حماس، التي تتولّى مقاليد الحكم في القطاع الفقير والمُحاصر منذ الانقسام الفلسطيني الداخلي في العام 2007.
منذ بداية العدوان كان هدف إيجاد جهة بديلة لحماس على رأس أولويات الحكومة الإسرائيلية، وتم طرح أسماء جهات وشخصيات عديدة، بعضها محسوب على السلطة الفلسطينية في رام الله، والبعض الآخر مرتبط بعلاقات وثيقة مع بعض الأنظمة في المنطقة، وخصوصاً دولاً خليجية بعينها، وكان وما زال يلعب أدواراً حسّاسة وغامضة في الكثير من الملفات المحليّة والإقليمية.
على أرض الواقع، وقياساً على ما شاهدناه خلال الأسبوعين الأخيرين بعد دخول وقف إطلاق النار حيّز التنفيذ، والذي بدا في بعض تفاصيله مفاجِئاً للكثيرين، لا سيما الكيان الصهيوني، إذ يشير الظهور اللافت للمقاومة الفلسطينية إلى أنها ما زالت بكامل قوّتها ولياقتها، ويكاد يكون من شبه المستحيل إيجاد جهة تدير القطاع، بغض النظر عن اسمها، أو توجّهها السياسي، وارتباطاتها الداخلية والخارجية بعيداً منها، أو على أقل تقدير مناوئة لها، أو تحمل أجندات تخالف أجنداتها.
هذا البند تحديداً، لا سيّما في ظل موقف السلطة الفلسطينية غير المبشّر، ورغبتها في إقصاء جميع الأطراف الأخرى، خصوصاً تلك التي تتبنّى خيار المقاومة، وهو الأمر الذي ظهر جليّاً أبّان الحوارات التي جرت في القاهرة مؤخراً، والتي لم تُبدِ فيها السلطة المحكومة باتفاقية أوسلو سيئة الذكر، والتي حاولت تقديم فروض الطاعة من خلال استمرار التنسيق الأمني مع الاحتلال، كما جرى وما زال يجري في مخيم جنين، سيحتاج إلى جهد مضاعف، وإلى عمل كبير، وضغوطات ومساومات ومغريات، ومقاربات قد تحمل في طيّاتها الكثير من المفاجآت غير المتوقعة، والتي ربما تُفضي في بعض تفاصيلها إلى إقصاء جهات وشخصيّات وظهور أخرى.
البند الثاني، والذي لن يكون أقل صعوبة من سابقه، هو قضية إعادة الإعمار، والتي حسب المؤسسات الأممية والدولية ستحتاج إلى أكثر من ثلاثين عاماً، وستتجاوز تكاليفها الخمسة عشر مليار دولار في حدّها الأدنى، خصوصاً إذا ما عرفنا أن تقييم حجم الضرر الذي أصاب كل نواحي الحياة في قطاع غزة سيحتاج إلى وقت طويل، وإلى هدوء مستدام لتتمكّن الطواقم المختصّة من العمل بسهولة ويسر.
في هذا الجانب، تبدو المعوّقات الإسرائيلية التي خبرناها في السنوات السابقة، لا سيّما بعد حرب 2014 متوقّعة، وهي تشغل بال الكثيرين من أهالي غزة، وتحديداً أولئك الذين تعرّضت مساكنهم وممتلكاتهم إلى ضرر بالغ، وهم يشكّلون النسبة الأكبر من أهالي القطاع، والتي قد تصل بعد الانتهاء من عمليات الفحص والإحصاء إلى أكثر من سبعين في المئة.
بالنظر إلى ما حدث حتى الآن، والذي كان أقل بكثير من المأمول،خصوصاً في ما يتعلّق بعمليات الإغاثة الإنسانية وإدخال المساعدات، وتحديداً ما يتعلّق منها بعمليات الإسكان المؤقت، والتي تواجه كما يبدو معوّقات كثيرة، منعت دخول مئات آلاف الخيم والكرفانات التي كان يتم الحديث عنها، إلى جانب عدم إيجاد حلول، ولو بحدّها الأدنى، في ما يتعلّق بإمداد القطاع بمصادر الطاقة البديلة، والتي يفتقد إليها منذ بداية الحرب، وما تتركه من تأثيرات على حياة الناس، بالإضافة إلى تفاقم الأزمات، يوماً بعد يوم، رغم توقف القتال، وعلى رأسها أزمة المياه الصالحة للشرب، والنقص الحاد في المستلزمات الطبية، والأزمة المستمرة في ما يخص قطاع الاتصالات والمواصلات وتحويل الأموال،كل ذلك وغيره الكثير يُلقي بكثير من الشك حول مجريات المرحلة القادمة، ويجعل منسوب التفاؤل لدى الفلسطينيين في أدنى مستوياته، ويُشعرهم بأن هذا التلكؤ المقصود هو عبارة عن جزء من خطة طويلة الأمد لدفعهم إلى الرحيل عن أرضهم، خصوصاً بعد حديث الرئيس الأميركي حول هذا الأمر.
ثالث البنود وأصعبها، قياساً على التجربة السابقة، هو المتعلّق بصفقة تبادل الأسرى الشاملة والنهائية، والتي ستُفضي إلى الإعلان عن وقف دائم وشامل لإطلاق النار، ترفض "إسرائيل" حتى الآن الحديث عنه، أو عمّا يتعلّق به من ترتيبات مختلفة.
وبما أن المرحلة الأولى من عمليات التبادل لم تكن بتلك السلاسة، وشهدت تعطيلاً وتأخيراً إسرائيليين مقصودين، وكادت لولا تدخّل الوسطاء أن تنهار، خصوصاً في ما تعلّق منها بقضية الأسيرة أربيل يهود المتدرّبة في قسم الفضاء في "جيش" الاحتلال، والتي كشفت أن العدو لديه جملة من الأولويات يرفض التنازل عنها، فإنه من المتوقّع أن تشهد المرحلة القادمة والتي تشمل الأسرى الإسرائيليين من الجنود والضباط، الذين يتجاوز عددهم الستين أسيراً، وما يقابلهم من الأسرى الفلسطينيين ذوي المحكوميات العالية، وبعض الأسرى من القيادات رفيعة المستوى والذين ترفض "إسرائيل" إطلاق سراح بعضهم، الكثير من الصعوبات، وستحتاج إلى فترة طويلة نسبياً، ربما تتجاوز الإطار الزمني الموضوع مسبقاً،خصوصاً في ظل عدم رغبة الحكومة الإسرائيلية الحالية في دفع ثمن كبير قد يؤدي إلى تفكّكها وانهيارها، وهذا الأمر يمثّل خطاً أحمر لنتنياهو تحديداً، وهو الذي يعاني الكثير من الأزمات التي يمكن أن تُنهي حياته السياسية.
من الصعوبات التي يمكن أن تواجه المفاوضات في ما يتعلّق بهذا البند، على وجه الخصوص، عدد الأسرى العسكريين الأحياء، وبينهم قادة كبار يحملون رتباً رفيعة في "الجيش" الإسرائيلي، إلى جانب ضبّاط استخبارات على درجة عالية من الأهمية، وإمكانية قبول المقاومة بتقديم لائحة تفصيلية حولهم كانت قد رفضت تقديمها سابقاً، والثمن الذي على العدو أن يدفعه مقابل الإفراج عنهم، والكثير من الأمور الأخرى المتعلّقة بهذا الشأن.
على كل حال، وبعيداً من نظريتي التفاؤل والتشاؤم اللتين تسودان كل المهتمين بما يجري في فلسطين بشكل خاص، والذي ترتبط به جبهات ومواقع أخرى في الإقليم، فإن المرحلة القادمة ستكون من دون أدنى شك صعبة ومعقّدة وحسّاسة، ويمكن أن تحمل في طيّاتها العديد من التطورات غير المُتوقّعة، والتي يمكن أن تذهب بالأمور إلى عكس ما يتمنّاه الجميع، لا سيّما من الفلسطينيين الذين يرغبون في استعادة جزء من حياتهم الطبيعية.
إلا أنه، وعلى الرغم من هذه النظرة التي قد تبدو متشائمة بالنسبة إلى البعض، فإن المعطيات المتوفّرة تشير إلى أن هذا الاتفاق سيصمد، ويمكن له أن يتحوّل إلى اتفاق ثابت ومستدام، ليس لأن الإسرائيلي يريد ذلك، وليس لأن الرئيس الأميركي الجديد يدفع باتجاه تبريد بعض الساحات، وعلى رأسها الساحة الفلسطينية، بل لأن هناك قناعة ترسّخت لدى قادة "دولة" الاحتلال، وبين النخب العسكرية والسياسية في "الدولة" العبرية بأن حربهم على غزة وما ارتبط بها من جبهات الإسناد قد فشلت، وأن كل الأهداف التي رفعوها منذ بداية العدوان قد سقطت، وأن استمرار هذه الحرب أو استئنافها سيكلّف "إسرائيل" أثماناً أكبر بكثير من تلك التي ستدفعها في حال تم التوصل إلى اتفاق نهائي، هذه القناعة التي يعبّر عنها كثير من الصهاينة، ونرى ونسمع صداها وتداعياتها في وسائل الإعلام الإسرائيلية المختلفة يمكن لها أن تكتب السطر الأخير في هذه الحرب الظالمة والمجنونة، والتي كشفت، رغم ما تركته من ندوب هائلة في الجسد الفلسطيني، أن هذا الكيان الهش قابل للهزيمة، وأن يده القوية التي كان يضرب بها كل أعدائه قد كُسرت في غزة وبيروت وصنعاء وبغداد وطهران، وأن الزمن الذي كان يخرج فيه قادة الاحتلال للتباهي بإنجازاتهم العسكرية والسياسية قد انتهى إلى غير رجعة، وأن المستقبل الذي ينتظر هذه "الدولة" المارقة هو مستقبل أسود، قد يدفعها إلى مزيد من التراجع، وصولاً إلى التفكّك والانهيار التام في قادم السنوات.