"إسرائيل" مركز ثقل الفاشية الغربية

حملة الغرب على أبسط الحقوق الأساسية، تُنفّذ باسم حماية "إسرائيل" ويهود الغرب الذين يُشجّعون جرائمها. لتخرج الفاشية من الظلال بأميركا، بالتزامن مع ارتكاب "إسرائيل"، إبادة جماعية سافرة ضدّ الفلسطينيين بغزة.

  •  السياسة الإسرائيلية انقسمت بين ما يُسمّى الفصيل
    السياسة الإسرائيلية انقسمت بين ما يُسمّى الفصيل "الليبرالي" والصهيونية اليمينية.

في أعقاب طوفان الأقصى وانفلات الإبادة الصهيونية في قطاع غزة، وانطلاق حركة الاحتجاجات في الغرب والعالم، يشنّ الغرب الجماعي حملة قمع واسعة النطاق على الاحتجاجات وحرية الخطاب السياسي باعتبارها حرباً على "معاداة السامية"، في تطوّر جديد للفاشية الغربية، التي تعود دائما متخفّيةً، تشهّر بخصومها كنازيّين وأعداء للسامية. فليس متوقّعاً أبداً أن تعود الفاشية إلى أوروبا أو أميركا في زيّ النازية مرتديةً أحذية عسكرية ورافعةً الصليب المعقوف.

مؤخراً، نشر الكاتب البريطاني جوناثان كوك، مقالاً كاشفاً حول العلاقة الثلاثية المركّبة بين الغرب و"إسرائيل" والفاشية، بعنوان: الفاشية الجديدة: إسرائيل نموذجٌ لحرب ترامب وأوروبا على الحرية".

لم يخمد فيروس الفاشية مؤقتاً ويصبح كامناً في الغرب إلا بعد تدميره الواضح أثناء الحرب العالمية الثانية. لكن تظهر مؤشراتٌ مبكرةٌ في كل مكان أنّ الفاشية – كأيديولوجية تتبنّى هرمية عنصريةً لقيمة البشر، تُحدّد من يستحقّ الحقوق ومن لا يستحقّها – وتُعيد فرض نفسها في الولايات المتحدة وأجزاءٍ كبيرةٍ من أوروبا.

بحسب الكاتب، تظهر الفاشية الجديدة تفاقم انعدام الثقة والخوف من الأجانب. فيُنظر للمهاجرين على أنهم يُدمِّرون الغرب من الداخل – يناقضون الحضارة والثقافة "المتفوّقة" ويعادونها. في الولايات المتحدة، اختفى مقيم قانوني دائم – ربما الأول بين كثر – في نظام السجون الأميركية، بانتظار ترحيله.

يُوصم الخطاب السياسي المعارض لحكومات الغرب وجرائمها، ويُسحق بقوانين قديمة وجديدة. وتستسلم مؤسسات أكاديمية يُفترض أنها ليبرالية للتهديد بعقوبات قانونية ومالية. لا سبب يدعو لافتراض أن المنظومة القضائية ستفرض أي رقابة حقيقية على السلطة التنفيذية.

يحذّر الكاتب من عودة الفاشية: لقد شرع الغرب باتخاذ أولى خطواته الرسمية على مسار سياسي مختلف: مسار نعرف مصيره النهائي من تاريخنا الحديث نسبياً. فيُحدّد اليمين المتطرّف الآن جدول الأعمال، سواء كان نجم التلفزيون الملياردير دونالد ترامب في الولايات المتحدة، أو بائع السيارات المستعملة "المُمجّد" في ويستمنسترببريطانيا: نايجل فاراج.

هناك أحزاب ذات ميول فاشية داخل حكومات إيطاليا وهنغاريا وفنلندا والتشيك وسلوفاكيا وهولندا وكرواتيا. وتتنافس أحزاب اليمين المتطرف المُعلَنة بأريحية على السلطة بفرنسا وألمانيا والنمسا والسويد، وللمرة الأولى في بريطانيا. أنتج هذا التوجّه موجة نوّاب قوميين متطرفين انتخبوا العام الماضي بالبرلمان الأوروبي.

والحواجز الوحيدة المتاحة تكنوقراط عديمي الفاعلية، كرئيس وزراء بريطانيا كير ستارمر، ورئيس فرنسا إيمانويل ماكرون، ونائبة الرئيس الأميركي السابقة كامالا هاريس، وهؤلاء يكرّرون سياسات فاشلة فتحت الباب أمام الفاشيين.

"إسرائيل" مستودع الفاشية

لم تأتِ هذه التطوّرات من فراغ، بل كانت قيد الإعداد عقوداً. ولا ينبغي أن يكون هذا مفاجئاً، لأنّ مستودع أفكار وممارسات الغرب الفاشية الرئيسي منذ الحرب العالمية الثانية كان مخزوناً على مرأى الجميع: "إسرائيل".

إن حملة الغرب السافرة على أبسط الحقوق الأساسية، كحرية التعبير السياسي والحرية الأكاديمية، تُنفّذ باسم حماية "إسرائيل" ويهود الغرب الذين يُشجّعون جرائمها. لتخرج الفاشية من الظلال بأميركا وأوروبا، بالتزامن مع ارتكاب "إسرائيل"، بتسليح وغطاء دبلوماسي غربي، إبادة جماعية سافرة ضدّ الفلسطينيين في غزة.

واصلت "إسرائيل"، بدعم غربي واضح، ارتكاب الأفعال نفسها التي وجدت دول الغرب نفسها  أنه يستحيل تبريرها عقب الحرب العالمية الثانية. عندما أُجبر الغرب كارهاً على الانخراط في إنهاء الاستعمار بأفريقيا وآسيا، مُنحت "إسرائيل" ترخيصاً ودعماً لا ينضب لتنمية مشروع قومي عرقي عنيف على وطن شعب آخر. كانت الفوقية اليهودية محترمة، رغم تراجع الفوقية البيضاء.

أصبحت "إسرائيل" أجرأ في عمليات التهجير وسياسات الفصل العنصري. فحشرت الفلسطينيين في جيوب أصغر فأصغر، حيث جُرّدوا من حقوقهم وتعرّضوا لانتهاكات عسكرية مستمرة.

استمرّ كلّ هذا حتى منتصف الستينيات الماضية، عندما ألغت حركة الحقوق المدنية الأميركية بنهاية المطاف قوانين جيم كرو العنصرية في الجنوب الأميركي العميق. واستمر الأمر نفسه في التسعينيات، فأُرغِم قادة نظام الفصل العنصري البيض في جنوب أفريقيا، كمشروع استعماري غربي آخر، على الإقرار بالحقيقة ومصالحة الأغلبية السوداء.

ظلت "إسرائيل" حليف الغرب المفضّل، مع دفعه بقوة ضد ما جرى تقديمه بأماكن أخرى باعتباره مداً حتمياً للتغيير التقدمي.

سلوك وحشي

كان صعود الفاشية في معظم أنحاء أوروبا خلال ثلاثينيات وأوائل أربعينيات القرن الماضي جرس إنذار دفع قيادات غربية لدعم مؤسسات دولية، شعارها حقوق الإنسان.

كان يُفترض أن تُجسّد الأمم المتحدة، (أُنشئت عام 1945)، هذه القيم حيث أصدرت إعلانها العالمي لحقوق الإنسان بعد ثلاث سنوات، وأفرزت هيئات قانونية مثل محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية لمحاسبة الأنظمة المارقة.

كان الهدف منع عودة أهوال الحرب العالمية الثانية، من معسكرات الموت النازية إلى القصف بالقنابل الحارقة الذي شنته قوات الحلفاء على المدن الألمانية واليابانية.

لهذا السبب، وجد مشروع "إسرائيل" العرقي لاستعمار فلسطين – بتهجير الفلسطينيين أو قتلهم وإحلال اليهود محلّهم – نفسه بمواجهة مستمرة مع هيئات الرقابة الجديدة، منتهكاً قرارات الأمم المتحدة. وكانت واشنطن دائماً مستعدّة لحمايتها من العواقب.

لم يكن الأمر أنّ دولاً أخرى لم ترتكب جرائم فظيعة أيضاً. ففي سعيها للبقاء كقوة عظمى عالمية خلال الحرب الباردة، دمّرت الولايات المتحدة مساحات شاسعة من جنوب شرق آسيا في حملات قصف خلال حرب فيتنام.

لكن بخلاف الدول الغربية، لم تُبدِ "إسرائيل" ولو لفظياً أيّ التزام بمبادئ النظام الدولي المفترضة بعد الحرب العالمية الثانية. كان مبدؤها التنظيمي يتعارض مباشرةً مع إعلان الأمم المتحدة. رفضت "إسرائيل" صراحةً حقوق الإنسان العالمية، واستبعدت قوانينها الأساسية مبدأ المساواة.

خلال ذلك، كان القمع العسكري الإسرائيلي المستمر لشعب فلسطين انتهاكاً صارخاً لاتفاقيات جنيف. وبشأن حقبة الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، لم يمرّ يوم منذ تأسيسها من دون أن ترتكب "إسرائيل" عنفاً هيكلياً ضد السكان الأصليين سعياً لطردهم.

لم يمرّ يوم من دون عزل الفلسطينيين، وتدمير مجتمعاتهم، وتجريدهم من أراضيهم، وإبادة محاصيلهم، وقطع طرقهم، ووضعهم في معسكرات تعذيب، وعزلهم عن العالم أو قتلهم.

ولولا يد القانون الدولي الكابحة، والصورة الصعبة التي تواجه الولايات المتحدة وأوروبا في دعم السلوك الوحشي، لكانت "إسرائيل" قد نفّذت الإبادة في وقت أبكر وأسرع، بل وأكثر وقاحةً.

لكن حتى هذه القيود تكاد تتبخّر! فالإبادة الجماعية الراهنة في غزة، ويرعاها الغرب بوضوح، لا تحدث إلا في مناخ سياسي يُفرِغ فكرة حقوق الإنسان العالمية من محتواها؛ ففقدت فكرة قدسية الحياة البشرية معناها.

انتهاك وَتشويه القانون الدولي

انقسمت السياسة الإسرائيلية نفسها بين ما يُسمّى الفصيل "الليبرالي" والصهيونية اليمينية، كما لو كان هناك صراع أيديولوجي كبير دائر. لكن في الحقيقة، كل السياسات الإسرائيلية فاشية بطبيعتها. يقوم جناحا الصهيونية على فكرة أن اليهود الإسرائيليين – ومعظمهم مهاجرون جدد – يتمتعون بحقوق فوقية تعلو حقوق أهل فلسطين الأصليين، وأن أي فلسطيني يرفض الخضوع للعبودية الدائمة يجب أن يُعاقَب.

لا يدور الجدل داخل الصهيونية حول إن كان ينبغي حدوث هذا أصلاً، بل حول الخطوط الدقيقة التي يجب رسمها لذلك. ما هو نطاق تمتع اليهود بحقوق أعلى بلا تحفّظ، وما مدى قسوة العقوبات التي تُفرض على "عصاة" الفلسطينيين؟

عكست هذه الجدالات بشكل كبير انقسامات علمانية ودينية داخل "إسرائيل"، إذ أعطت أجزاء من مجتمعها الأولوية لمخاوف الغرب بشأن سمعة "إسرائيل" دولياً.

وطيلة عقود، وإزاء رفض الفلسطينيين التعاون مع مبدأ "إسرائيل" التنظيمي – الخضوع أو العقاب – تحوّلت الأغلبية الإسرائيلية من صهيونية ليبرالية مهووسة بالمظاهر إلى صهيونية يمينية متطرّفة، متبجّحة بالانتصار، بلا معاذير أو تبرير. ولهذا يتبوّأ من يُعلنون أنفسهم فاشيين بفخر مقاعدهم في الحكومة الحالية.

ولهذا السبب أيضاً، انضمّ حزب الليكود الحاكم الشهر الماضي كمراقب إلى تحالف "وطنيون لأجل أوروبا"، ويضم أحزاب اليمين المتطرف الأوروبية، والمرتبطة غالباً بالنازية والنازية الجديدة. في مؤتمر افتتاحي عُقد بمدريد، استُقبل الليكود بترحاب وحفاوة، حيث سلّط قادة التحالف الضوء على "قيمهم المشتركة".

لم يحدث أيّ من هذا خفيةً. فـ"إسرائيل" آخر بؤرة استعمارية رئيسية للغرب. إنها ساحة اختبار صناعات الغرب العسكرية لقدراتها التدميرية على الفلسطينيين. هنا تُختبر قوة وصدقيّة القانون الدولي، وتُمطّ وتُشوّه وتُمزّق مبادئه بانتهاكات لا تنتهي، وتُخرق خرقاً صارخاً.

وهنا تُصنع وتُعلّب سردية مظلومية "الحضارة" اليهودية المسيحية، لتبرير الحرب على شعب فلسطين والمسلمين عموماً.

تدليس مثالي

يُفترض استمرار كلّ هذا، بمنأى عن النقد أو الاعتراض. لقد طوّر الغرب قصة مثالية لإخفاء سلالته الفاشية، فالذين يعارضون إخضاع شعب فلسطين ومعاملته بوحشية ينكرون على الشعب اليهودي حقه في تقرير المصير. إنهم بالتالي "أعداء السامية".

بموازاة ذلك، أي فلسطيني يقاوم الإخضاع والمعاملة الوحشية هو إرهابي. وبالتالي، فإن من يتحالف مع الفلسطينيين هو متحالف مع الإرهاب. وفي قفزة أخرى، وبما أن الغرب يعتبر الفلسطينيين جزءاً من جماهير المسلمين في العالم العربي – رغم وجود مسيحيين ودروز فلسطينيين كثر – فإن المقاومة الفلسطينية للقمع الإسرائيلي يمكن اعتبارها ملحقاً للتهديد الإسلامي المفترض للغرب.

في الحقيقة، لا تُقاتل أي جماعة فلسطينية لغزو الغرب، أو لفرض الشريعة الإسلامية على أوروبا وأميركا. تسعى جماعات المقاومة الفلسطينية فقط إلى تحرير وطنها من القمع الاستعماري والتطهير العرقي عقوداً.

وكما هو متوقّع، كلما طال هذا القمع، بدعم غربي مُفرط، انجذب الفلسطينيون الذين يواجهون انتهاكات "إسرائيل" إلى جماعات مسلحة أقل تساهلاً، مثل حماس، المُصنّفة كمنظمة إرهابية في بريطانيا وغيرها.

وتُصوّر "إسرائيل كدولة صغيرة وبطولية" تُدافع عن الغرب من جحافل المسلمين. وفي سردية تقلب الواقع رأساً على عقب، تُمثّل "إسرائيل" السور الإنساني ضد "البربرية" الفلسطينية، وبالتالي الإسلامية.

هذه الفرضيات أتاحت لمايكل غوف، الوزير البريطاني السابق، كتابة مقال في خضمّ الإبادة الجماعية الإسرائيلية بعنوان: "يجب ترشيح الجيش الإسرائيلي لجائزة نوبل للسلام". وسمحت لكاتب مرموق، هوارد جاكوبسون، بالمطالبة بالصمت إزاء قتل وتشويه عشرات الآلاف من أطفال فلسطين بغزة، لأن الدفاع عنهم بمثابة "تشهير دموي" بحق الشعب اليهودي.

وهذه هي الفرضيات التي تجعل ميلاني فيليبس، صحافية البارزة ببرامج بي بي سي الحوارية، تفلت من العقاب عندما تكتب: "إذا كنت تدعم القضية العربية الفلسطينية اليوم، فأنت تُسهّل كراهية اليهود المجنونة والقاتلة".

إنها سرديات مخادعة وهمية لإثارة الشفقة على الذات، وتجعل أسلافنا الأوروبيين – الذين نهبوا أفريقيا، واستعبدوا شعوبها "الهمج!"، أو قتلوا منهم ملايين رفضوا قبول "تفوّق" الغرب الحضاري – يتبنونها براحة تامة.