أسباب نجاح "إسرائيل" في استهداف قيادة المقاومة فجر الثلاثاء الدامي!

التساؤلات عن الضربة الافتتاحية للحرب الجديدة، والتي حصدت العدد الأكبر من القادة والكوادر، تبقى في مقدّمة التساؤلات المثارة، وهي بالنسبة للكثيرين ما زالت عبارة عن أحجية يصعب فكّ شفرتها أو الإجابة عنها.

  • ما الأسباب التي دفعت الكيان الصهيوني لنقض التهدئة؟
    ما الأسباب التي دفعت الكيان الصهيوني لنقض التهدئة؟

حتى هذه اللحظة، وبعد مرور أيام على استئناف العدو الصهيوني لهجومه على غزة، ما زالت الكثير من التساؤلات تُطرح في الساحتين الفلسطينية والعالمية، وتضجّ بها وسائل التواصل الاجتماعي بأنواعها كافة.

بعض هذه التساؤلات يتعلّق بالأسباب الحقيقية التي دفعت الكيان الصهيوني لنقض التهدئة، والعودة إلى مربّع القتال من جديد بعد نحو شهرين من التوصّل إلى اتفاق وقف إطلاق النار، والذي كان من المفترض أن يستمرّ بمراحله الثلاث حتى الوصول إلى اتفاق نهائي وشامل.

تساؤلات أخرى تمّت إثارتها بشكل واسع عن دور الوسطاء والضامنين للاتفاق، وفي المقدّمة منهم مصر وقطر والولايات المتحدة الأميركية، والتي كانت تشير معظم التصريحات الصادرة عنهم إلى إمكانية صمود وقف إطلاق النار على الرغم من تنصّل "إسرائيل" من معظم بنوده، وخرقها إياه خلال المرحلة الأولى في كثير من تفاصيله، بل وإعلانها صراحة على لسان الكثير من مسؤوليها وعلى رأسهم بنيامين نتنياهو عن نيّتها للعودة إلى الحرب من جديد ما لم تتحقّق شروطها التي كانت تخالف الاتفاق بكلّ ما للكلمة من معنى.

تساؤل ثالث وهو الأكثر تداولاً بين الفلسطينيين بشكل خاص، يدور حول كيفية تمكّن "جيش" الاحتلال من الوصول إلى أماكن وجود القادة من المستويين السياسي والعسكري لفصائل المقاومة في قطاع غزة، واستهدافهم رفقة عائلاتهم بهذه الطريقة التي بدت مفاجئة وصاعقة، وأدت إلى سقوط عدد كبير منهم داخل بيوتهم، وفي أماكن إقامتهم، بل إنّ البعض منهم بحسب مصادر مطّلعة تمّ استهدافه في أماكن آمنة وليس في بيته أو أماكن من المعروف أنه قد يكون موجوداً فيها.

بحسب ما تمّ الإعلان عنه من قبل الفصائل في القطاع فقد اغتالت "إسرائيل" كوكبة من مسؤولي العمل الحكومي رفيعي المستوى، وهم الذين كانوا مكلّفين بإدارة معظم الملفات ذات العلاقة بحياة المواطنين في غزة، وعلى رأسهم مسؤول اللجنة الشهيد أبو معاذ الدعاليس، بالإضافة إلى مسؤولي ملفات بالغة الحساسية مثل الأمن الداخلي، والأمن العامّ وغيرهما.

إلى جانب من سبق فقد تمكّن الاحتلال من اغتيال أعضاء مكتب سياسي في حركة حماس، وقادة آخرين في الجناح العسكري، بالإضافة إلى مسؤول كبير في الوحدة الصاروخية لسرايا القدس، والناطق العسكري باسم السرايا ناجي أبو سيف "أبو حمزة "، والذي ارتقى رفقة زوجته وشقيقه ومجموعة من أفراد عائلته.

ومع أنّ عمليات الاغتيال ما زالت متواصلة حتى كتابة هذا المقال وإن بوتيرة أخفّ وأقلّ حدّة، إلّا أنّ التساؤلات عن الضربة الافتتاحية للحرب الجديدة، والتي حصدت العدد الأكبر من القادة والكوادر، تبقى في مقدّمة التساؤلات المثارة، وهي بالنسبة للكثيرين ما زالت عبارة عن أحجية يصعب فكّ شفرتها أو الإجابة عنها.

نحن هنا سنحاول الإشارة إلى عدد من الأسباب التي أدّت إلى تمكّن "جيش" الاحتلال من أداء مهمّته بنجاح، والهدف من ذلك في حقيقة الأمر ليس الإشادة بقدرات هذا "الجيش" المجرم العسكرية والاستخباراتية، ولا الترويج لما يملكه من أدوات وإمكانيات، وهي بحسب ما يعرفه الجميع كبيرة ولا تقارن بما لدى المقاومة من قدرات، وإنما هي محاولة لتفادي تكرار مثل هذه العمليات من جديد، أو على أقلّ تقدير التقليل من الخسائر الناتجة عنها، وهي من دون أدنى شكّ خسائر كبيرة ويمكن أن تترك تداعيات مهمة على الساحة الداخلية الفلسطينية، وعلى الهيكل التنظيمي لفصائل المقاومة أيضاً.

أولى هذه الأسباب وأهمّها هو ركون القادة المستهدفين وقناعتهم كما معظم سكّان القطاع، إلى فرضيّة أنّ الحرب بأدواتها الخشنة قد انتهت إلى الأبد، وأنها لن تعود على الإطلاق إلى مربّعها الأول الذي استمر طيلة خمسة عشر شهراً، وأنّ التصريحات الإسرائيلية التي كانت تُطلق صباح مساء حول نيّة الاحتلال العودة إلى القتال هي مجرّد ضغوط تخدم الجانب التفاوضي ليس أكثر، وأنها لا يمكن أن ترقي لتتحوّل إلى واقع عملي على الأرض.

هذا الركون، وهذه القناعة، والتي كانت من وجهة نظري نتيجة تقدير موقف خاطئ من الجهات المختصّة في المقاومة، أدّت إلى تراجع الإجراءات الأمنية التي كان يتخذها القادة الشهداء وغيرهم إلى درجة مخيفة، وبما أنّ هذه الإجراءات التي تمكّنوا من خلالها طيلة شهور الحرب من منع العدو من الوصول إليهم، أو التعرّف إلى أماكن وجودهم، قد تراجعت إلى هذا الحد، ولا سيّما على صعيد استخدام الهواتف الذكيّة، والظهور العلني في الكثير من المناسبات، إلى جانب عودتهم لأداء مهامهم الحكومية والتنظيمية من دون إجراءات أمنية مناسبة، فقد تمّ منح العدو وأجهزة استخباراته التي نشطت بكثافة فترة الهدنة فرصة لا تعوّض، تمكّن من خلالها من تحديد الكثير من الأماكن، والحصول على مروحة واسعة من الأهداف، ووضع الخطط المناسبة لاستهدافها بكلّ أريحية، وبنسبة نجاح تكاد تتجاوز التسعين بالمئة.

السبب الثاني هو التطمينات التي كانت تصل إلى فصائل المقاومة من قِبل الدول الوسيطة، والتي كانت تشير بشكل أساسي إلى عدم رغبة العدو في استئناف الحرب، وأنّ أوضاعه الداخلية، وأزمات رئيس وزراء كيانه المتعددة، بالإضافة إلى الموقف الأميركي المعارض لعودة القتال، لا تسمح بالعودة إلى المربّع الأول من المواجهة، وأنّ أقصى ما يمكن أن يفعله العدو هو إطلاق التهديدات، وإغلاق المعابر، وتشديد الحصار.

هذه التطمينات التي ساهمت بصورة مباشرة في نضوج تقدير الموقف المشار إليه أعلاه، والذي ساهم كما أشرنا في تراجع الإجراءات الأمنية لدى الكثيرين من قادة المقاومة، أدّت إلى الحال الذي وصلنا إليه اليوم، والذي تجد فيه المقاومة نفسها في موقف لا تُحسد عليه، سواء من ناحية الخسائر الجسيمة التي تعرّضت لها في هجوم الثلاثاء الدامي، أو في خياراتها التي يمكن أن تلجأ إليها للتعامل مع العدوان المستجد، والذي يمكن أن يأخذ أوضاعاً تصاعدية خلال المرحلة المقبلة، معتمداً على الموقف الأميركي الداعم والمنحاز من جهة، وعلى العجز العربي والإسلامي الرسمي والشعبي غير المسبوق من جهة أخرى.

سبب ثالث ربما يكون غاب عن أذهان الكثيرين في ذروة ما وقع من أحداث جسيمة خلال الأيام الماضية، وهو يتعلّق باستخدام العدو الصهيوني لأدوات جديدة من أجل جمع المعلومات الاستخباراتية، ومراقبة ورصد الأهداف المختلفة التي ينوي استهدافها، وهذه الأدوات تُضاف إلى مجموعة كبيرة وهائلة من الأدوات التي كان وما زال يستخدمها العدو في هذا المجال، ومن بينها الطائرات المسيّرة، والتجسّس على الأجهزة الخلوية، ومراقبة الاتصالات والرسائل النصّية والإلكترونية، ومسح مناطق معيّنة من خلال الأقمار الاصطناعية التجسّسية، إلى جانب الاستخبارات البشرية "العملاء والجواسيس"، والذين يؤدّون دوراً محورياً لا غنى عنه في كلّ عمليات الاغتيال أو الاستهداف المختلفة.

إلى جانب ما سبق من أدوات فقد لجأ العدو بحسب بعض المصادر إلى استخدام كاميرات حرارية حديثة ومتقدّمة، يوجد بعضها على طائرات الاستطلاع الصهيونية، وخصوصاً الطائرة المسيّرة من نوع "هيرمز 450"، أو المسيّرة ذات المهام المتعدّدة "أوربيتر1"، واللتين نشطتا بكثافة عالية خلال أيام التهدئة، فيما توجد أنواع أخرى على الرافعات الضخمة التي تمّ نصبها في المواقع العسكرية المستحدثة على طول الحدود مع قطاع غزة، وبإمكانها التصوير على مسافات بعيدة وبجودة عالية الدقة.

أدوات أخرى تشير إليها بعض المصادر حول زرع الاحتلال عدداً كبيراً من أدوات التجسس المموّهة في مختلف أنحاء القطاع، مستغلاً توغّل قواته في تلك المناطق في المرحلة الأولى من الحرب، ويبدو أنّ هذه الأدوات والأجهزة قد ساهمت في مراقبة تحرّك العديد من القيادات، وتوفير معلومات عن أماكن تحرّكهم، والمناطق التي يلجأون إليها أو يقيمون فيها.

كلّ ما سبق، إلى جانب الكثير من الأسباب التي يمكن أن نتحدّث عنها لاحقاً، مكّنت "جيش" الاحتلال من تنفيذ هجومه الغادر والوحشي، والذي خالف فيه كلّ ما سبق من اتفاقيات وتفاهمات، وضرب من خلاله كلّ مواثيق حقوق الإنسان التي كفلتها الاتفاقيات الدولية ذات الصلة، ولا سيّما أنه تعمّد استهداف القادة الشهداء وسط عوائلهم وجيرانهم، متعمّداً إسقاط العدد الأكبر من الضحايا، في محاولة متكررة لكسر معنويات الشعب والمقاومة، والذين أظهروا رباطة جأش منقطعة النظير كما هي عادة الشعب الفلسطيني على الدوام.

ختاماً ومن باب التذكير، مطلوب من كلّ أبناء الشعب الفلسطيني في القطاع المحاصر والمنكوب أن يكونوا على جاهزية تامّة لمواجهة ما هو أسوأ، وعدم الركون لضمانات هنا أو هناك، فالمؤامرة أكبر مما يتوقّع البعض، وهي لا تتعلّق بهذه البقعة الصغيرة في قطاع غزة فقط، بل تتجاوزها إلى عموم المنطقة، وهي مؤامرة تسعى من خلالها قوى الاستعمار العالمي لفرض وصايتها على عموم الإقليم، وضرب وتحطيم كلّ قوى المقاومة والممانعة، ولن تدّخر أيّ وسيلة من أجل الوصول إلى هذا الهدف.

مطلوب المزيد من الحيطة والحذر والأخذ بالأسباب، إلى جانب تطوير الإمكانيات والأدوات على اختلاف أنواعها للتصدّي للعدوان وإفشال مخطّطاته، إلى جانب وضع الخطط المناسبة لإدارة المواجهة بطريقة فعّالة ومثمرة.