قمة ألاسكا… طاولة في الميدان
يبدو أن العالم يخوض سباقين متوازيين: سباقاً بين القوى الكبرى والإقليمية لتأمين مواقعها في الخريطة الدولية، وسباقاً داخلياً يخوضه ترامب لإنقاذ مشروعه السياسي من ضغط الأزمة الداخلية.
-
الاستقرار العالمي هشاً إلى حد يجعل أي شرارة صغيرة كفيلة بإطلاق سلسلة انهيارات.
مع اقتراب موعد القمة المنتظرة بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ونظيره الأميركي دونالد ترامب في ألاسكا، يعلو هدير الأسئلة الكبرى: هل يمكن لهذه القمة أن تفتح نافذة ضيقة للحل في أوكرانيا، أم أنها ستكون مجرد محطة أخرى على طريق التصعيد والصدام؟ وهل يمكن أن تتسق قرارات ترامب الأخيرة، خاصة أوامره التنفيذية الموجهة ضد روسيا وشركائها، مع منطق الاقتصاد العالمي، أو حتى مع متطلبات الاقتصاد الأميركي الذي يواجه بدوره تحديات متصاعدة؟
لا تقف التساؤلات عند حدود الجغرافيا الأوكرانية، بل تمتد إلى سياسة واشنطن في محيط روسيا الجيوسياسي، بما يشمل تركيا وإيران، وعلاقة هذه الملفات بـ"إسرائيل"، التي تتقاطع مصالحها في أكثر من زاوية مع ترتيبات واشنطن الإقليمية. في هذا السياق، لا تبدو قضايا لبنان، من ملف السلاح إلى الاحتلال، وسوريا والمنطقة عموماً، قضايا منفصلة، بل هي أجزاء من لوحة أوسع تحددها مسارات التنافس والصراع على النظام الدولي القادم.
البيت الأبيض، منذ بداية الولاية الثانية لترامب، يواصل إصدار بياناته وإجراءاته بوتيرة ثابتة، وميل متزايد إلى الصدام الاقتصادي. أحدث الأمثلة توقيع أمر تنفيذي برفع الرسوم الجمركية على كندا من 25% إلى 35% بدءاً من الأول من آب/ أغسطس، في خطوة لم تنهِ الأزمة مع أوتاوا، ولم تحقق مكاسب واضحة في المدى القصير، لكنها عكست تصميم ترامب على نهج الضغط المباشر حتى مع أقرب الشركاء. وفي الاتجاه ذاته، طالت الإجراءات البرازيل، التي وجدت نفسها أمام رسوم إضافية بنسبة 40%، ليرتفع الإجمالي إلى 50%. وهذه ليست سوى الحلقة الأصغر في سلسلة من العنف الاقتصادي الذي تمدد ليشمل أطرافاً أبعد وأكثر تأثيراً.
الصين… الجائزة الكبرى
عصا ترامب الاقتصادية ليست موجهة للجوار القريب فقط، بل للأطراف البعيدين الذين يشكلون تهديداً طويل الأمد لمكانة الولايات المتحدة في هرم النفوذ العالمي، وفي مقدمتهم الصين. من منظور البيت الأبيض، فإن استمرار بكين في تفادي المواجهة المباشرة يمنحها فرصة ذهبية للحفاظ على سرعة تقدمها الاقتصادي والتكنولوجي، بما يتيح لها إما تجاوز الولايات المتحدة أو ترسيخ قدرتها على منافستها على نحو دراماتيكي.
في الشرق الأوسط، حافظت بكين على مسافة مدروسة من النزاعات الدامية، متمسكة بخطاب القانون الدولي والحلول السلمية، مع دعم غير معلن لشركائها في لحظات حاسمة. هذا النهج الحذر، القائم على “دبلوماسية الظل”، لا يلبي توقعات ترامب، الذي ينظر إلى الصين باعتبارها المنافس الجاد الوحيد للهيمنة الأميركية على النظام الدولي، ويرى أن ضرب شركائها هو طريق إلزامي لفرض المواجهة عليها.
في الحرب الجمركية، قدمت بكين تنازلات محسوبة، مدركة أن أي مواجهة مبكرة ستمنح ترامب زخماً سياسياً داخلياً وربما تفجيراً لمشروعها قبل اكتماله. لكن هذا التأجيل دفع واشنطن إلى البحث عن قنوات بديلة للضغط، كان أبرزها التركيز على العلاقة الاستراتيجية بين بكين وموسكو، خصوصاً بعد أن فشل بوتين في السير بالحل الأوكراني وفق ما رسمه ترامب ووعد به في اتصالات سابقة.
هنا، يصبح الإنذار الأميركي لموسكو أداة متعددة الأهداف: فهو من جهة يضغط على روسيا في مسار أوكرانيا، ومن جهة أخرى يوجّه رسائل إلى دول البريكس، التي لا تمثل منافسة اقتصادية مباشرة بقدر ما تمثل تعبيراً عن توجه اقتصادي–سياسي جماعي قادر على تقليص قدرة واشنطن على التحكم في إدارة أزماتها، داخلياً وخارجياً.
عصا ترامب تطال وتستهدف الحلفاء قبل الخصوم
استراتيجية ترامب لم تتوقف عند حدود الضغط على الصين وروسيا، بل امتدت لتطال دولاً تعتبر حليفة لواشنطن، مثل الهند والبرازيل. فالهند، رغم تحالفها المعلن مع الولايات المتحدة، تنتهج سياسة سيادية واضحة، وتتصرف كقوة صاعدة تتبنى شراكات متعددة، أهمها مع روسيا في مجالات الطاقة والسلاح. هذه الشراكة منحت موسكو متنفساً استراتيجياً في ظل العقوبات الغربية، وحوّلت نيودلهي إلى محور جذب بين الغرب والبريكس على حد سواء.
الهند لعبت دوراً محورياً في إعادة تصدير الغاز الروسي إلى أوروبا حتى خلال ذروة الحرب الأوكرانية، كما واصلت استيراد السلاح الروسي، ما وفر لها مكاسب سياسية وأمنية. هذه الأدوار وضعتها تحت ضغط مباشر من إدارة ترامب، التي ترى فيها إضعافاً لجدوى العقوبات على موسكو.
لكن هذه الحروب الجمركية والعقوبات ليست بلا أثر على الحلفاء الغربيين أنفسهم. اليابان، على سبيل المثال، تكبدت شركة “نيسان” فيها خسائر قاربت 800 مليون دولار في ربع واحد، مع تراجع حاد في المبيعات داخل السوقين اليابانية والأميركية، وفقدت أكثر من ربع حصتها في السوق الصينية. وفي ألمانيا، تشير بيانات “إيرنست آند يانغ” إلى فقدان نحو 19 ألف وظيفة في قطاع السيارات عام 2024.
هذا النمط يثير الشكوك حول إذا ما كان تدمير الصناعات في معاقل الحلفاء يمكن أن يكون استراتيجية متعمدة، إلا إذا كان الهدف النهائي تدمير الصين بالتوازي، وهو ما لم يتحقق حتى الآن. ومع ضيق الوقت في ولاية ترامب، يزداد احتمال أن يتحول الإخفاق الاقتصادي إلى دافع نحو الخيار العسكري، إذا ما نجح في تفكيك التحالفات الدولية وعزل كل دولة على حدة.
هنا يطل العامل الأهم: انتقال ثقل الإنتاج الاقتصادي والتكنولوجي نحو الشرق، في مجالات تمس حياة البشر ذاتها، مثل اللقاحات والأدوية، بما في ذلك لقاح السرطان الذي أنتجته روسيا. وعلى المستوى العسكري، تقلّص التكنولوجيا الفجوة بين القوى الكبرى والصاعدة، ما يجعل المستقبل ساحة رهانات مفتوحة للجميع، ويؤشر إلى تحولات جذرية في ميزان القوى العالمي.
الخطر ينتقل إلى القوقاز وآسيا الوسطn
في موازاة الملف الأوكراني، يقود المبعوث الأميركي ويتكوف تحركات نشطة لإدماج دول من آسيا الوسطى في اتفاقيات أبراهام. انضمام أذربيجان وكازاخستان إلى هذا المسار سيخلق طوقاً جيوسياسياً يحيط بإيران من الجنوب، وبروسيا من الجنوب الغربي، ما يعزز الضغط الاستراتيجي على محور موسكو–طهران.
المشروع الأكثر حساسية في هذا الإطار هو ممر زانجيزور، الذي يربط أذربيجان بتركيا عبر الأراضي الأرمينية، ويهدد بقطع الحدود الإيرانية–الأرمينية، مانحاً امتيازات لشركات أميركية خاصة وممهداً لحضور أمني أميركي مباشر في المنطقة. هذه الخطوة لا تمثل فقط ضربة لأرمينيا، بل تضيق الخناق على إيران وروسيا، وحتى على تركيا التي ترى في القوقاز ساحة لنفوذها في “العالم التركي”.
أمام هذا المشهد، تتبنى موسكو سياسة المزج بين التلويح بالقوة وتجنب المواجهة المباشرة، مع تعزيز الشراكة العسكرية مع إيران، كما ظهر في المناورات البحرية المشتركة التي شملت المحيط الهادئ والمتجمد الشمالي وبحر البلطيق وبحر قزوين. هذه التحركات تأتي في سياق ردع استباقي، يوازن بين معالجة الأزمات المشتعلة على المدى القصير، والحسابات الجيوسياسية الكبرى المتعلقة بشكل النظام الدولي الجديد.
في المحصلة، يبدو أن العالم يخوض سباقين متوازيين: سباقاً بين القوى الكبرى والإقليمية لتأمين مواقعها في الخريطة الدولية المتحولة، وسباقاً داخلياً يخوضه ترامب لإنقاذ مشروعه السياسي من ضغط الأزمة الداخلية.
وفي الحالتين، يظل الاستقرار العالمي هشاً إلى حد يجعل أي شرارة صغيرة كفيلة بإطلاق سلسلة انهيارات، قد تبدأ من أوكرانيا أو القوقاز، أو حتى من قلب الاقتصادات الغربية ذاتها.