"شرف القبيلة" رواية تعالج ضرورة فهم ماهيّة العدو
تعتبر رواية "شرف القبيلة" ليس من أهم روائع الأدب الجزائري وحسب بل من روائع الأدب العالمي.
-
رواية "شرف القبيلة" لرشيد ميموني
نعيشُ في عالم مليء بالتردّد المفرط أو الاندفاع المفرط، وبناء على هذا الإفراط تبرز "المعاناة" عند الجميع، ثمّة من يعاني لأنهم يلاحقونه دوماً لأنّهم يتذكّرونه يومياً، وثمّة من يعاني لأنّ لا أحد يراه، إنّه منسيّ حتى في حضوره، وبين هذا وذلك ثمّة حياة إن اختارت البقاء في الزاوية جاءها الآخر وأخرجها بالقوة، إنّ القوة هنا لا تكمن في الأسلحة الفتّاكة كما جرت العادة، بل في تقديم الحياة البديلة التّي تذهب بعيداً بتوفير وسائلها الجديدة، إنها صراع دائم مع ما ولد عليه الإنسان وما تقدّمه له هذه الحياة في استمرارها، هل يتمسّك بأخلاق أجداده أم ينخرط في تبنّي أخلاق المستقبل؟
تعدّ رواية " شرف القبيلة" للكاتب الجزائري رشيد ميموني واحدة من الروايات التّي تعالج ضرورة فهم ماهيّة العدو، من هو هذا العدو؟ هل هو المستعمر أم ابن البلاد أم أنا؟ لعلهم جميعاً دفعة واحدة. تعالج أيضاً ضرورة العيش وإمكانية فعل ذلك، ضرورة صناعة الحياة التّي تناسبك، وكيف ستؤول إليه تلك العادات التّي عشت بها إذا لم تستجب لفكّ عزلتك، لأنّه ثمة شرط وجودي سيتكرّر داخل الأحداث "إن لم تصنعها فإنّه ثمة أشخاص سيتكفّلون بصناعتها لك".
تدور الأحداث في قرية متخيّلة "زيتونة" وسيحيلنا أمر كهذا إلى "ماكوندو" مدينة ماركيز المتخيّلة كذلك، قرية زيتونة حيث الناس غارقين في كسلهم وعاداتهم مكتفين بالقدر الضئيل الذّي يصرفون عليه أعمارهم الطويلة في تتبّع أخبار النّاس ومراقبة النساء المارات وسماع الخطب ورعي المعاز وتناول الكسكس، أناس القيلولة يهرعون إلى الظلال للغرق مجدداً في الملل والحفاظ على امتيازاتهم الأخلاقية التّي تعيد صياغة الأجيال كأنما ماكينة طبع.
وينقل لنا الروائي رشيد ميموني على لسان أحد الشيوخ حكاية، وما بين الكتابة السياسية والاجتماعية تنزلق الأحداث وتبرز الشخصيات كلّ وما تحمله من رؤية يستنطقها الكاتب ليقدّم لنا تلك الطرق الوعرة التّي أوصلت النتائج إلى ما هي عليه.
إنّ قرية زيتونة المعزولة الرافضة للانفتاح على القرى الأخرى والعاصمة والعالم نوع من معالجة الكاتب للخوف من الغد، الخوف من المضي قدماً، الخوف من الحداثة، الخوف من الآخر الذّي ساهم بدلاً عنك في بناء مستقبل ستنتمي إليه أجيالك. إنّ الرفض الذّي سنلمسه من طرف أبناء القرية هو رفض يأخذ في شقّين؛ الغرق في الحداثة وفقدان خواصك، والغرق في العزلة وفقدان مشاركتك. وكلاهما يصيباننا بالذعر، الذّعر الذّي نجده في تعليق إمام القرية على والد علي الذّي قرّر أن يلتحق ابنه بالمدرسة، وكان هذا أثناء الاستعمار الفرنسي "في الواقع لم نتبيّن إلا أنّه زرع في عقله بذور الحداثة الأولى الماكرة التالفة" صفحة 15، رافضين كذلك لكلّ تغيير، فالحياة التّي اعتادوا عليها تريحهم من أن يطوّروا ذاتهم، وتخطف من بين أياديهم ما ظلّوا ينتفعون به طوال عقود، إنّ فكرة التميّز شكّلت لديهم "أخبث آفة" صفحة 15 فنعتقد أنّ هذه القرية يهرب إليها للاختباء من الحياة ذاتها.
فهل نجح الكاتب في تحرير شخصياته من مكر القرية أم من اعتداء المدينة؟ هل يمكن إنقاذ الناس من مستقبلها؟ وهل يمكننا قراءة هذا العمل من دون التفكير في الحاضر الذّي لا يزال يشغل الكثير من الشخصيات الهاربة من شرف القبيلة؟
شخصيات القلق، هذا ما نشعر به أثناء السير أدبياً جنباً إلى جنب مع أبطال الرواية، القرية القلقة يشغلها ماضيها كمستقبل مضمون فيتضاعف فيها الانطواء على ساكنيها، وفي كلا المرحلتين اللتين قاد بهما الكاتب شخصياته "أثناء الاستعمار وبعد الاستقلال" كان دائماً ثمة نزاع لا بين المدينة والقرية بالمعنى المجرّد الحالي، بل بين القيم ووسائل العيش والضروريات لفعل كلّ ذلك،مدينة المعمّرين وقرية زيتونة، مدينة الحداثيين وقرية زيتونة، قيم المستقبل وقيم الماضي، حينما تفتح القرية يدها تجاه المدينة تعيد المدينة أبناءها إليها وكأنهم مجاذيم، وحينما تنكمش القرية على ذاتها تقتحمها المدينة بالقوّة لتخفّف من قرويّتها.
وبين رؤية السلطة وسلطة الرؤية نعيشُ مع ساعي البريد الذي يطمح إلى بناء مقرّ البريد، وجورجو الذّي يفكّر في أناس جدد يضاعفون بطلبهم السلع على رفوفه، وآخرون يحلمون بمدرسة تقيهم من دروس الجامع، بالشقق على الروابي التّي بدأت تتصاعد مقابل البنايات القديمة، بالسجن الذّي سيعاقب المعزات العائدات من الرعي إذا ما اتخذت لعودتها الطريق المعبّدة، أو أولئك الذين قطعوا الشوارع من غير أن يعبروا ممرّ الراجلين المحدّد... إلخ.
لقد خلق الاستعمار طابع حياة أخرى مقبلة من أوروبا وعاشها أمام أنظار الجميع، ذلك العيش الذّي يرفضه الآباء والأجداد ويفهمه الشباب، فبين أن ترث الأجيال ماضيها وترث مستقبلها يتعيّن على الجميع عيش مأساتهم.
عمر المبروك الشخصية التّي ستأخذ حيّزاً مهماً وستدور معه الشخصيات، ذلك الطفل الذّي شاهد والده سليمان الذّي جاء من علاقة غير شرعيّة وتربّى في حضن جدّه لأمّه ذات يوم يتقاتل مع حيوان المشعوذ لإنقاذ شرف القبيلة إلى أن اغتالته مخالبه من دون أن يتدخّل المتفرّجون لفكّه من الموت سيحمل للقرية كرهاً دائماً، لقد خاض سابقاً شباباً مليئاً بالرذيلة والطيش وصل حدّ الاعتداء على أخته ورديّة وستأخذه العاصمة، هذه المدينة الكبيرة التّي يراها سكان القرية مكاناً بعيداً، لا تنتمي إليهم ولا ينتمون إليها حتّى يخيّل إليك ـــــ من شدّة إدارة هذه القرية ظهرها للمستقبل ـــــ أنّها تقع خارج دولتهم، وفيها سيخلق عمر المبروك فرصه للعودة لكن كسلطة.
يعالج رشيد ميموني في شخصية كهذه أمراً خطيراً، وهو تعيين مسؤول انتقامي من طرف السلطة في مراكز يصعب إنقاذ الأبرياء من قراراته، وبدل بناء علاقات بين السلطة المتمثّلة في شخص عمر المبروك والشعب المتمثّل في سكان القرية، ستحدث قطيعة من جرّاء التجاوزات التّي سيسعى لممارستها عليهم "فقد أخرج المحامي ومحمد من الفيلات"، وأغلق معصرة الزيتون التّي كانت تعيل سكان القرية عند بيع زيتهم، وأغلق القهوة وقطع أشجار زيتونهم.
وهكذا حلّ الغضب بدل الاطمئنان، حلّ الاضطراب بدل الاستقرار، وعكس ما كان يحلم به الجميع حينما عرفوا بأمر ترقية قريتهم إلى بلدية بأن تصبح جنّة ازدادت جحيماً، حلّ الانتقام بدلاً من أن يحلّ التقدّم وتحسين الحياة كما أملوا، لقد عملت شخصية عمر المبروك على تكسير كلّ ما يحبّونه، ولم يمنعه ذلك من قطع أشجار الكاليتوس التّي عمّرت طويلاً وغدت مكانهم أين يستظلون وتزعجه عصافيرها، لقد أحكم قبضته مما خلق في الطرف الآخر الرغبة في إسقاطه، فالجميع يخلقون ممرات للعبور نحوهم من دون دراية منهم وبذلك يستدّل الآخر إليه بغية إنهائه.
لقد استطاع رشيد ميموني الوقوف بحياد تامّ أمام الواقعية التّي لا يزال الكثير منها يمارس حتّى اليوم،لهذا ندرك مدى أهميّة أن يكون الكاتب على مسافة صفر من الحقيقة، معالجة الأفكار بلغته الجذّابة المتحّررة من ثقل الإحراج تصل بخفّة إلى مبتغاها، حتى لا نعود نفرّق بين الجزائري وقريته، بين أطفال القرية الذين انسحبوا نحو المدينة وأطفال البارحة الذّين جلبوا معهم أطفالهم حينما عادوا إليها، أطفال المدينة الذّين سيعيدون رسم خارطة الأخلاق داخل القرية. وعمر المبروك الذّي جلب خلفه رجال الدرك، ثم الشرطة، ثم مسؤولي الحزب، فمعلمي المدارس، وأطباء المستشفى وممرضيه، حرّاس السجن، إمام المسجد الجديد، وقابضات السوق الكبيرة، لقد مُلئت القرية بأشخاص جدد، لم تعد هنالك قرية من طرف واحد، بل اقتحمت المدينة الطرف الآخر، فكّت عزلتها بالقوة لكن هل استطاعت بالرغم من كلّ هذا التدفّق فكّ انغلاقها في السلوك المتوارث؟
علينا الإقرار أنّ الرغبة في أخذ كيان ما من الزاوية لا تكفي أحياناً لأن يحافظ على كلّ ماهيته، يمكننا إقحامه وسط الحشود، لكن تغييره إلى الحشود يتطلّب اقتلاعه، فالقرية التّي تشعرُ بأنها اقتلعت مثل أشجارها كانت تحتاج إلى قاضٍ واحد حتى يحرّرها من سلطة عمر المبروك وسلطة القرية ذاتها، فالمستقبل لا يبنى بالانتقام بل بالعدالة، والأجيال لا تحلم بمقتل "شرف القبيلة" أكثر من حلمها بأن تصبح هي ذاتها وسيلة لإنقاذها من مستقبل لا يعني الجميع.