التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي في ميزان العمل والمجتمع

كان للتطور المتسارع في التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي تأثيراً مباشراً في مختلف ميادين النشاط الإنساني، وطرق العمل وأسلوب الحياة الاجتماعية بتفاصيلها اليومية والعامة.

0:00
  • التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي في ميزان العمل والمجتمع
    التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي في ميزان العمل والمجتمع

يطال التحول الهائل والجذري الذي يحدثه التطور المستمر في التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي، مختلف ميادين النشاط الإنساني، ويمتد في أثره إلى طرق العمل وأسلوب الحياة الاجتماعية بتفاصيلها اليومية والعامة. وعلى الرغم من أن هذه التقنيات تقدم فرصًا هائلة لتحسين الكفاءة والإنتاجية، إلا أنها تثير تساؤلات حول تأثيرها على الوظائف، العدالة الاجتماعية، والعلاقات بين الأفراد. 

التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي في ميدان العمل

في ميدان تحسين الكفاءة والإنتاجية اللذين أدت التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي إلى قفزة نوعية فيهما، يبرز نموذج "أمازون"، الشركة العملاقة التي تستخدم الروبوتات الذكية في مراكز التوزيع لتحسين الكفاءة وتقليل الأخطاء البشرية. ووفقاً لتقريرٍ صادر عن شركة "ماكينزي" في العام الماضي، يمكن للذكاء الاصطناعي أن يعزز الإنتاجية العالمية بنسبةٍ تصل إلى 40% بحلول عام 2035.

وإلى جانب ذلك، تسهم التكنولوجيا في خلق وظائف جديدة في مجالات مثل تحليل البيانات وتطوير البرمجيات. وقد أشار تقرير المنتدى الاقتصادي العالمي في العام 2020، أي قبل الفورة المتسارعة في هذا المضمار، إلى أن الذكاء الاصطناعي سيخلق 97 مليون وظيفة جديدة بحلول العام الجديد 2025.

غير أن هذا التطور في حجم الوظائف ليس مرتبطاً بما سيتوفر من الوظائف الجديدة للبشر فقط، بل إن قطاعاتٍ عديدة ستشهد تحولاً في طبيعة الوظائف، واستبدال التقليدي منها بعمال مهرة، لكن هذه المرة من الروبوتات. ففي قطاع التصنيع، تعتمد مصانع السيارات على روبوتات متقدمة لتنفيذ مهام اللحام والتجميع. وقد أشارت منظمة العمل الدولية (ILO) إلى أن 14% من الوظائف في الاقتصادات المتقدمة معرضة للاستبدال بحلول 2030.

والأمر مرتبط بدرجةٍ عالية أيضاً بتحسين تجربة العمل، إذ تستخدم شركات مثل Google الذكاء الاصطناعي لتحليل أداء الموظفين وتحسين بيئة العمل. بينما كشفت دراسة لـAccenture أن 54% من الشركات التي اعتمدت الذكاء الاصطناعي شهدت تحسينًا في رضا الموظفين وإنتاجيتهم.

التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي في المجتمع

في مجال الرعاية الصحية، تستخدم أنظمة مثل IBM Watson Health لتحليل البيانات الطبية وتشخيص الأمراض بدقة أكبر وكفاءة أعلى، وقد بيّن تقرير صادر عن PwC خلال العام 2022 أن الذكاء الاصطناعي يقلل الأخطاء الطبية بنسبة 45%، ويسرّع عملية التشخيص بنسبة تصل إلى 60%.

وعلى مستوى العلاقات الاجتماعية، وفي إشارةٍ سلبية، تعتمد وسائل التواصل الاجتماعي على الذكاء الاصطناعي لتخصيص المحتوى، مما قد يؤدي إلى تعزيز التواصل أو تعزيز العزلة الاجتماعية. دراسة أخرى كانت هذه المرة من نصيب Statista أظهرت أن 58% من المستخدمين يقضون أكثر من 4 ساعات يوميًا على وسائل التواصل الاجتماعي، وهذه أرقام سنة 2022، التي ربما تكون قد استفحلت مع توسع استخدامات الذكاء الاصطناعي وتعقدها.

في ميدان التعليم، بدا أن التكنولوجيا كانت عاملاً مساهماً في مساعدة المؤسسات والمعلمين على أداء وظائفهم خلال مرحلة الإقفال الاضطراري بسبب جائحة "كوفيد 19". والآن تستمر منصات مثل Coursera بالاعتماد على الذكاء الاصطناعي لتوفير تجارب تعليمية مخصصة للطلاب. وهنا يشير تقرير لـUNESCO إلى أن أدوات التعليم المدعومة بالذكاء الاصطناعي حسّنت أداء الطلاب بنسبة تصل إلى 30%.

وتُستخدم أنظمة المراقبة القائمة على الذكاء الاصطناعي لتحسين الأمن العام، مثلما هو الحال في الصين على سبيل المثال، لكن هذه التجربة تتعرض أيضاً إلى الكثير من الانتقادات في مقابل إيجابياتها التي تجهد السلطات الرسمية في إظهارها. وقد لفتت دراسات الانتباه إلى توقعاتٍ متفائلة بأن ترتفع الاستثمارات العالمية في تقنيات الأمن القائمة على الذكاء الاصطناعي إلى 35 مليار دولار بحلول 2025 (المصدر دراسة لـIDC).

أما في مجال النقل، فإن تطبيقات مثل Uber وLyft تعتمد على الذكاء الاصطناعي لتحديد المسارات الأسرع وتحسين تجربة العملاء. وتأتي تقارير Deloitte لتدعم هذا الاتجاه بالقول إن هذه التقنيات قللت من وقت الانتظار بنسبة 30% وزادت الإيرادات بنسبة 25%.

وفي المجالات الزراعية وإنتاج الغذاء والتجارة الإلكترونية والتمويل، يسهم الذكاء الاصطناعي في إحداث نقلة جديدة نوعية. شركات مثل John Deere تستخدم الذكاء الاصطناعي لتحليل بيانات التربة وتحديد أنماط الري، وقد زادت إنتاجية الزراعة المدعومة بهذه التقنيات بنسبة 20% بحسب تقرير لمنظمة الأغذية والزراعة "فاو". بينما تعتمد البنوك على هذه التقنيات للكشف عن الاحتيال، في حين تستخدم منصات مثل Amazon أنظمة توصيات لتحسين المبيعات. وفي تقرير آخر لـForrester Research تبين أن 70% من التجار عبر الإنترنت يستخدمون الذكاء الاصطناعي لتحسين تجربة العملاء، مما أدى إلى زيادة الإيرادات بنسبة 35%.

لكن هذه الأفضليات تجلب معها أيضاً تحديات، ومنها ما يرتبط بالفجوة التكنولوجية، إذ لا تتمتع الفئات الأقل حظًا بالفرص نفسها للوصول إلى التكنولوجيا. وهو ما أشار إليه تقرير المنتدى الاقتصادي العالمي حين قال إن 47% من سكان العالم غير متصلين بالإنترنت.

ولا تتوقف التحديات على ذلك فحسب، بل إن الجانب المتعلق بالخصوصية والأمان يثير الكثير من التساؤلات مع تسارع وتيرة التقدم وحجم اجتياحه لمجالات النشاط البشري. إذ تعتمد العديد من التطبيقات على جمع البيانات، مما يثير مخاوف بشأن الخصوصية. وفي هذا السياق أظهرت دراسة لـ Gartner (2022) أن 40% من الشركات العالمية واجهت انتهاكات أمنية مرتبطة بالذكاء الاصطناعي. وإلى جانب ذلك، هناك أيضاً تحديات أخرى مرتبطة بالصحة النفسية، ناتجة عن الاستخدام المفرط للتكنولوجيا الذي قد يؤدي إلى القلق والعزلة، وهذا رأي 32% من الشباب الذي شعروا أن التكنولوجيا تؤثر سلباً على صحتهم النفسية، وذلك في دراسة لـHarvard Business Review.

هكذا تحمل التكنولوجيا وبالأخص ما يرتبط بالذكاء الاصطناعي إمكانات هائلة لتحسين جودة الحياة والعمل، لكنهما يطرحان تحديات تتطلب إدارة واعية. لكن مع السياسات المناسبة والوعي العام، يمكن تحقيق التوازن بين الاستفادة من هذه التقنيات وتقليل آثارها السلبية.