صناعة الفُرقة في الوعي المجتمعي العربي

كيف وصل المسلمون إلى هذا التهاوي والسقوط؟ وهل تمّت صناعة الفرقة وتحقيق التشرذم لأجل السيطرة على مقدرات الأمم والشعوب أم لأهداف أعمق من ذلك؟ وما دور النخبة إزاء ذلك؟

0:00
  • الأزمة التي تعاني منها الأمة هي المذهبية التي أصبحت أداة استراتيجية لتحقيق الكراهية.
    الأزمة التي تعاني منها الأمة هي المذهبية التي أصبحت أداة استراتيجية لتحقيق الكراهية.

خلال جلسة مطوّلة قبل عقد من الزمن مع صانع الحضارة الماليزية مهاتير محمد، أخبرني الأخير عن تجربة ماليزيا في التحرر من براثن الاستعمار البريطاني، فالمملكة البريطانية عمدت كعادتها إلى استخدام سياسة "فرّق تسُد" للسيطرة على مقدرات الشعوب وتوجيه سلوكهم، وماليزيا ذات الأمة الملاوية المسلمة فوجئت بوجود جنود من جارتيها الهند والصين برفقة قوات الاستعمار، وكان من الصعب محاربة تلك الأمم متنوعة الأفكار والأديان والبلاد، لذلك قررت قيادة المقاومة الماليزية الجلوس مع قادة الهنود والصينيين في ماليزيا من أجل حضّهم على العمل برفقة الثوار، ومطالبتهم بترك العمل مع المستعمر البريطاني مقابل منحهم مكتسبات المواطنة كاملة أسوة بالماليزيين أو التوعّد بمحاربتهم مثل الاستعمار، فوافق هؤلاء على العمل مع تلك الدولة التي تحررت لاحقاً، حتى صارت ماليزيا متنوّعة الثقافة والديانة والفكر، ثم قرر كل هؤلاء لاحقاً تحقيق مبدأ الاندماج والتنوّع في القطاعات الاقتصادية الخدمية والصناعية والسياسية، الأمر الذي جعل ماليزيا تتقدم بقوة ضمن النمور الآسيوية لاحقاً، وتصبح في طليعة تلك البلدان، وصار شعار هؤلاء: "ساتو ماليزيا (أي ماليزية أمة واحدة)". 

في مقابل ذلك، فإن أنجيلا ميركل، المستشارة الألمانية السابقة، قالت عن أمتنا العربية ذات مؤتمر: إن الهند بلغات كثيرة وأديان أكثر وأرباب متعددة، لكنهم يعيشون في ما بينهم بسلام، بينما العرب ربهم واحد، وقرآنهم واحد، ولغتهم واحدة لكنّ دماءهم تسيل في الطرقات.

والسؤال: كيف وصل المسلمون إلى هذا التهاوي والسقوط؟ وهل تمّت صناعة الفرقة وتحقيق التشرذم لأجل السيطرة على مقدرات الأمم والشعوب أم لأهداف أعمق من ذلك؟ وما دور النخبة إزاء ذلك؟ وهل عمدت تلك النخبة إلى تغذية الكراهية أم إيجاد سبل الوحدة القومية أو الإسلامية؟ 

ولعلّ الأزمة الكبيرة التي تعاني منها الأمة هي المذهبية التي أصبحت أداة استراتيجية لتحقيق الكراهية والتشرذم في الموقف السياسي، إذ صارت إيران وأحلافها يشكلون البعبع لدول الخليج، بينما تحولت "إسرائيل" إلى حمامة السلام، وقد نجح الاستعمار من خلال أدواته في المنطقة إلى تحويل الطائفية كسلاح جيوسياسي ضد الوعي العربي، وضد القضايا المركزية مثل قضية فلسطين. علماً أن الفُرقة ليست قدراً، بل مشروعاً مقصوداً والنجاة منها يبدأ بتحرير الوعي. 

ما دفعني إلى الكتابة حول هذا الموضوع هو قراءة خبر مفاده أن الناطق الرسمي باسم الفريق القانوني أمام المحكمة الجنائية الدولية يؤكد أن بعض البلدان العربية تعرقل بشدة تحقيقات المحكمة ضد نتنياهو و"جيش" الاحتلال، تماماً كما فعل الرئيس الفلسطيني محمود عباس سابقاً عندما قام بسحب تقرير جلدستون الذي يدين "إسرائيل" من ارتكاب جرائم حرب في غزة إبان الحروب السابقة. 

ولقد نجح الاستعمار من خلال الإعلام الموجّه إلى إذكاء الكراهية بين شبان الأمة، وبين الشعوب، وبين المذاهب، وقد انتبهت ذات مرة كيف سعى الاحتلال إلى ممارسة سياسة "فرق تسد" عبر وسائل التواصل الاجتماعي من خلال التحريض على فصائل المقاومة أو محور المقاومة أو داخل البلدان العربية من خلال أسماء وهمية وعملاء في ميدان التكنولوجيا لبث روح الكراهية والأحقاد بيننا، كي تظل "دولة" الاحتلال في مأمن، تحقق غايات الدول الاستعمارية الكبرى، بينما نخسر نحن العرب من رصيدنا الأخلاقي والإنساني، الديني والسياسي وكذلك الاقتصادي والاجتماعي. 

كما عمدت تلك القوى الخبيثة إلى تزييف الوعي، بتحويل الصراع الوطني إلى صراع مذهبي، من خلال توظيف رجال الدين الذين يسجدون على أعتاب بلاط السلطان، يسبحون بحمد الملوك والرؤساء، فيحرضون على هذا الفكر أو تلك الأمة، فمن الذي صنع الكراهية بين العرب والفرس؟ ولماذا كانت الكراهية سابقاً للعثمانيين؟ من الذي دفع هذا أو ذاك إلى السيطرة على العرب؟

أليس من الممكن البحث عن نقاط التقاء لنصبح أمة واحدة قوية، فما يجمعنا أكبر بكثير مما يفرق بيننا؟ ولنا في الاتحاد الأوروبي المختلف في مذاهبه الكاثوليكية والبروتستانتية والأرثوذكسية وأديانه أيضاً آية، فهم بلا حدود وبعملة واحدة وسياسة عامة واحدة، قاسمهم المشترك بناء أمة قوية، رغم اختلاف اللغة والثقافة وكذلك التاريخ. 

لقد نجح الاستعمار في صناعة عدو هلامي للأمة العربية، يتمثل في إيران وأحلافها من حزب الله والحوثي والحشد العراقي وحماس، رغم أن تلك الحركات والأحزاب هي من يذود عن الأمة وهي صمام الأمان الذي لو سقط ستسقط معه بلدان عربية كاملة وليس أنظمة فقط.

فمع حرب الخليج الأولى التي قامت الولايات المتحدة الأميركية بتغذيتها حتى استمرت إلى أكثر من عقد بين العراق والجمهورية الإيرانية لأجل إضعاف كلتا الدولتين ومنع انتصار أي طرف، ثم عاصفة الصحراء إبان الحرب العراقية -الأميركية بعد احتلال الكويت من أجل إعادة تشكيل التوازنات الإقليمية، ثم عاصفة الحزم في اليمن وبعد ذلك حصار قطر بتهمة التقارب مع الشيعة، في الوقت الذي يتناول فيه طعام الإفطار زعماء عرب مع القادة الصهاينة في أبو ظبي ودبي وغيرها، وفي الوقت الذي تحاول فيه "دولة" الاحتلال إقامة الهيكل وتدمير المسجد الأقصى. 

لقد عمدوا من خلال ذلك إلى شيطنة سلاح المقاومة وتبرير التحالف مع الاحتلال الإسرائيلي، وليس ذلك فقط، بل ذهبت بعض البلدان العربية إلى تعطيل قرارات إدانة "إسرائيل" أكثر من مرة في المحافل الدولية، وهناك تواطؤ رسمي واضح من خلال حصار القطاع واعتقال رجالات المقاومة أو منعهم من السفر كما كان يجري مع أبناء قطاع غزة، بل وزيادة على ذلك، وضوح التناقض بين الخطاب الرسمي العربي والممارسة السياسية.

وكان المواطن الغزي يسأل إبان زيارة ترامب وحصوله على الأموال الطائلة من السعودية وقطر والإمارات: ألم تكن تلك البلدان قادرة على إلزام الإدارة الأميركية بوقف الإبادة في غزة؟ وهل هي نفسها عاجزة عن فعل ذلك من خلال استخدام النفط والممرات البحرية والبرية والموانئ كوسيلة لوقف تلك الإبادة؟ ما الذي يمنعها؟ وأين دور السلطة الفلسطينية تجاه الإبادة في غزة أصلًا؟ 

وهنا يظهر كل شيء جلياً، إن الاستعمار وعبر قنوات متعددة، استطاع خلق عدو وهمي يتمثل في الجمهورية الإيرانية -خصوصاً بعد سقوط نظام الشاه واستعداء أميركا-أمام تمدد الاحتلال الإسرائيلي جيوسياسياً في المنطقة. وكل ما جرى يأتي على حساب القضية الفلسطينية التي تتآكل اليوم في الوعي الجمعي العربي، لذلك مطلوب من جميع الفاعلين في المنطقة العمل على تفكيك الخطابات الطائفية والعودة إلى القضايا الجامعة، ثم بناء تحالفات على أساس العدل والمصالح المشتركة، لا على أوهام المذهب والانتماء؛ فالطائفية ليست قدراً، بل مشروعاً تم استخدامه لتقسيمنا وتسهيل السيطرة علينا، وقد آن الأوان لكسر هذه الحلقة، وتوجيه البوصلة نحو العدو الحقيقي المتمثل في "دولة" الاحتلال.